أحمد عسيلي: في عصر الفيديو القصير والصورة المباشرة، لم تعد العلاقة بين الشعوب وسلطاتها محصورة في البرامج والخطب والمشاريع. بل أصبحت الصورة هي المساحة الأساسية التي تعيد فيها السلطة تقديم نفسها، وتكتشف الجماهير من خلالها موقعها من هذه السلطة: سواء كانت تابعة، متمردة، أو مجرد متفرجة غير مبالية.
الشاشة اليوم ليست مجرد وسيط، بل هي صانعة للسياسة، تحدد موقع المتحدث والمتلقي، وتؤثر حتى على شعورنا بذاتنا. بات واضحًا كيف يتم تصوير العلاقة مع السلطة من خلال فيديوهات تبدو بسيطة، لكنها تحمل دلالات أعمق بكثير مما يظهر على السطح. لنبدأ بتحليل هذه الظاهرة في سوريا من خلال مشهد محافظ دمشق وهو يعايد عمال النظافة ورجال الشرطة، بينما يوزع شخص خلفه مغلفات مالية صغيرة. هل هي بادرة عفوية؟ ربما، لكنها أقرب إلى استعراض أبوي قديم، يعيد إنتاج فكرة أن الحاكم هو مصدر العطاء، وأن العلاقة بين المسؤول والناس ليست علاقة قانون ومواطنة، بل علاقة مانح وممنوح، سيد ومرؤوس.
في مشهد آخر، يظهر وزير الثقافة وهو جالس بأناقة وثقة وابتسامة، بينما يقف أمامه طفل فقير، ثم يسأله فجأة عن أبي العلاء المعري. سؤال يبدو عبثيًا أمام كاميرا تركز على الفقر والجهل والإحراج، لكنه ليس كذلك إذا قرأناه كصورة مركبة لعلاقة السلطة بـ"رعاياها": الوزير المثقف الجالس في موقعه العلوي، في مواجهة الطفل الفقير الذي يفترض أننا حريصون على حالته النفسية وتعزيز ثقته بنفسه، لا على إحراجه وكشف جهله أمام الملأ.
لو حللنا هذين المشهدين بمنظور المحلل النفسي الفرنسي فيليكس غاتاري، لوجدنا أنفسنا أمام "آلات" لا مجرد صور. بالنسبة لغاتاري، الإعلام ليس ناقلًا محايدًا، بل جهاز دقيق ضمن منظومة كبيرة تهدف إلى إنتاج نوع معين من الرغبات. الصورة هنا لا تخبرنا "ماذا حدث"، بل تقول لنا ضمنيًا "كيف يجب أن نشعر". المطلوب أن يشعر المشاهد بأن المحافظ كريم والوزير مثقف، والأهم أن يشعر الطفل بأنه صغير وجاهل أمام الدولة، وأن يشعر العامل بأنه مدين بماله للمسؤول وليس لوظيفته.
غاتاري يسميها أجهزة إنتاج الذاتية (machines de production de subjectivité)، هي صورة تحدد هويتك: تابعًا، صغيرًا، محتاجًا، دائمًا في الأسفل أمام الصورة الكبيرة التي لا يمكنك التحكم بها. المشكلة أن هذا الإنتاج يتم دون وعي منا. نحن نستهلك هذه الصور يوميًا، نعلق عليها، نضحك أو نغضب، لكننا نعيد إنتاج الشعور العميق بالهامشية أمام السلطة في كل مرة.
هذه اللعبة ليست حكرًا على الأنظمة السلطوية. حتى في الأنظمة الديمقراطية الغربية، الصورة السياسية ليست دائمًا أكثر تحررًا، بل مختلفة في طريقتها. يكفي أن نتذكر مشهدًا شهيرًا في فرنسا، عندما أوقفت امرأة من أصول مغاربية الرئيس إيمانويل ماكرون في الشارع، طالبة مساعدته في الحصول على إقامة قانونية لأنها تعيش بلا أوراق. بدا ماكرون في هذا الفيديو ضعيفًا، عاجزًا، يشرح لها بهدوء أن الأمر لا يعود له، بل إلى دائرة المحافظة الخاصة بها. رئيس الدولة الأقوى في فرنسا لم يكن "الأب الكريم"، بل كان موظفًا كبيرًا عاجزًا عن كسر البيروقراطية.
في مشهد آخر أكثر رمزية، وقف ماكرون في أرض الملعب بعد خسارة فرنسا نهائيات كأس العالم، محاولًا مواساة كيليان مبابي، نجم المنتخب الفرنسي. كان مبابي جالسًا على الأرض، يتجنب النظر إلى الرئيس. للمرة الأولى، بدا الحاكم تائهًا أمام نجم شعبي لا يحتاج إلى رمزية الدولة كي يكون محبوبًا.
إذا كانت الصورة السورية تنتج علاقة أبوية بين السلطة والشعب، فالصورة الغربية تنتج ما يشبه البرود العاطفي بين الطرفين. الحاكم هناك لا يبدو قويًا ولا محبوبًا، لكنه ليس مكروهًا بالضرورة. العلاقة أكثر عقلانية، لكنها تفتقر للحميمية التي تعودت عليها شعوبنا من علاقة الأب بالابن، أو الشيخ بالجماعة.
هنا يظهر السؤال الحقيقي: هل نحن بحاجة لاستعادة صورة "الأب" من جديد؟ أم أن ما نحتاج إليه هو إعادة تشكيل هذه الصورة؟ لا سلطة متعالية تعطي الناس "ظروف نقود"، ولا سلطة باردة تنفي مسؤوليتها كما يفعل رؤساء أوروبا، بل سلطة تستمد مشروعيتها من العلاقة مع الناس، دون أن تقطع تمامًا مع تقاليدنا، لكن أيضًا دون أن نعيد إنتاج نفس العقلية والسلوك.
ما نحتاج إليه هو هذه الحالة الوسط، ليس بالضرورة أن نتبنى النموذج الغربي كاملًا، ولا أن نعود لصورة الأب القاسي القديمة، بل أن نبتكر شكلًا جديدًا، كما تحاول أن تفعل تركيا مثلًا (ليس بالضرورة أن نتطابق معها تمامًا)، فلأردوغان مقطع فيديو شبيه وهو يمنح المال بأول أيام العيد، لكن يمنحه لأطفال صغار وليس لموظف حكومي: أب يعطي لكن ضمن إطار علاقة اجتماعية مقبولة مع الصغار، ومتماشية مع تقاليدنا، دون الإحساس بالفوقية، هنا أردوغان يطلب الولاء لا التبعية (نعم هناك فرق)، ويترك للناس مساحة يقولون فيها "نحن معك" لكن دون أن يشعروا بأنهم صغار أمامه.
في النهاية، الصورة تصنع العلاقة، لكن هذه المرة يجب أن نكون نحن من يصنع الصورة، لا أن نُستهلك فيها بلا وعي.