أطلقت وزارة الصحة السورية مشروع "التبني الدموي"، الذي يُعد نقلة نوعية في التعامل مع مرض الثلاسيميا، أحد أكثر الأمراض الوراثية شيوعًا وتطلبًا للعلاج مدى الحياة. ويستهدف المشروع بناء شبكة من المتبرعين الدائمين القادرين على تقديم الدم بشكل منتظم لمرضى الثلاسيميا، بهدف الحفاظ على مستويات صحية مناسبة من الهيموغلوبين، ومنع المضاعفات الجسدية والمناعية الناتجة عن نقصه المستمر.
المشروع ليس مؤقتًا بل استدامة
أكد الدكتور ياسر مخللاتي، رئيس دائرة الأمراض المزمنة في وزارة الصحة، في حديث لمنصة ، أن فكرة المشروع وُلدت من الحاجة الفعلية والدائمة للدم لدى مرضى الثلاسيميا، الذين يحتاجون إلى عمليات نقل دم متكررة طوال حياتهم. وقال: "لم نكن نسعى لإطلاق حملة واحدة أو جمع 100 أو 200 متبرع ليوم واحد فقط، بل كنا نريد شيئًا مستدامًا؛ مجموعة متبرعين يمكنها توفير الدم لطفل مريض باستمرار وعلى مدى سنوات، قد تصل إلى سنتين أو ثلاث أو حتى خمس، خاصة في حالات الطوارئ التي تتطلب زيادة الكمية". وأشار مخللاتي إلى أن الهدف الأساسي هو الحفاظ على نسبة الخضاب لدى الطفل ضمن حدود صحية مقبولة، لافتًا إلى أن انخفاض نسبة الهيموغلوبين إلى أقل من 8 غرام/ديسيلتر لفترات طويلة يؤدي إلى تشوهات عظمية واضحة، خصوصًا في عظام الوجه مثل الجبهة والوجنتين والفك العلوي.
تقليل المخاطر المناعية عبر التبني
كما شرح مخللاتي أن التبرع من عدد كبير من المتبرعين وتكرار نقل الدم يجعل هذا الدم "جسمًا غريبًا" بالنسبة للمريض، مما يؤدي إلى ظهور ردود فعل مناعية قد تتفاقم إلى رفض كامل لوحدات الدم المستقبلية. وقال في هذا السياق: "من هنا جاءت فكرة المشروع: ربط كل طفل مريض بمجموعة من المتبرعين الدائمين، لتقليل عدد المصادر، وبالتالي تقليل احتمالية الرفض المناعي، وضمان استمرارية العلاج بسلاسة وفعالية".
التوعية والتغير الثقافي
ولم يغفل الدكتور مخللاتي الجانب الاجتماعي للمشروع، موضحًا أنه ساعد في نشر التوعية الصحية حول مرض الثلاسيميا، وتمييزه عن أمراض أخرى مشابهة مثل فقر الدم المنجلي أو اللشمانيا أو حمى البحر المتوسط. وأضاف: "المشروع حوّل التبرع بالدم إلى قضية مجتمعية، حيث أصبح الناس يتحدثون عنه ويشاركون فيه بوعي وحماس، بل وبدأ البعض يعتبر تبرعه بالدم لطفل متبنًى واجبًا شخصيًا".
اختيار المتبرعين: ضوابط صارمة وشفافية عالية
وحول اختيار المتبرعين، أوضح الدكتور مخللاتي أن المشروع يستهدف فئة الشباب بين سن 18 و50 عامًا، لضمان الاستدامة على المدى الطويل، مع الالتزام بشروط صحية دقيقة:
- أن يكون الشخص بصحة جيدة.
- خاليًا من الأمراض المزمنة أو المعدية.
- غير مصاب بأمراض الدم أو الأمراض المنقولة بالدم مثل فيروس الكبد أو الإيدز.
- لم يسافر مؤخرًا إلى مناطق وبائية.
- لا يتناول أدوية مانعة للتبرع.
- وفي حالة النساء، عدم الحمل أو الإرضاع.
وأضاف: "بعد التأكد من فصيلة الدم ومعدلات الخضاب وفحص الأمراض المعدية، يتم تسجيل كل كيس دم وإرفاق اسم الطفل الذي سيستفيد منه مباشرة، مما يضمن الشفافية الكاملة ويشجع المتبرعين على الالتزام".
آليات التقييم والتوسع: من المجتمع إلى الإعلام
أما على صعيد التقييم، فقد ذكر الدكتور مخللاتي أن المشروع بدأ تنفيذه رسميًا في 8 أيار/مايو الماضي، بالتعاون مع عدة جهات حكومية ومنظمات مجتمعية، منها:
- وزارة الأوقاف: لنشر التوعية عبر المساجد.
- وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل: بالتنسيق مع الجمعيات غير الربحية.
- الجامعات: لاستهداف الطلاب المؤهلين للتبرع.
وشرح آلية العمل قائلًا: "إذا كانت لدينا جمعية بها 100 متطوع، فإننا نوزعهم على 20 طفلًا (كل طفل يرتبط بـ 5 متبرعين)، وبعد توعيتهم حول أهمية التبرع المنتظم وأسباب المرض، نبدأ بمتابعة استجابتهم وتحديث الاحتياجات باستمرار". وأكد أن المشروع يعتمد على التقييم المستمر من خلال التواصل مع بنوك الدم والجمعيات المشاركة، بالإضافة إلى الدعم الإعلامي الذي يهدف إلى تحويل التبرع بالدم إلى عادة مجتمعية واعية.
مشروع إنساني يحمل أهدافًا صحية واجتماعية
واختتم الدكتور مخللاتي حديثه قائلًا: "مشروع ‘التبني الدموي’ ليس مجرد مشروع طبي، بل هو مشروع إنساني وتوعوي يعزز قيم التعاون والتضامن في المجتمع. إنه خطوة نحو بناء مجتمع أكثر وعيًا، قادر على تحمل المسؤولية الصحية والاجتماعية تجاه فئة تحتاج إلى دعم دائم". ومن المتوقع أن يحقق المشروع نقلة كبيرة في جودة حياة مرضى الثلاسيميا، ويعزز ثقافة التبرع الطوعي بالدم، ليس كواجب وقت الأزمات، بل كجزء من الوعي المجتمعي اليومي.