كتب محمود جمال سعيد، الباحث الاقتصادي والمتخصص في أسواق المال، لـ”النهار”: تشهد أسواق المعادن الثمينة فترة ازدهار ملحوظة في ظل التقلبات المستمرة التي يشهدها الاقتصاد العالمي. ولم يعد هذا الارتفاع مقتصرًا على الذهب فقط، بل امتد ليشمل الفضة والبلاتين، مما يثير تساؤلات حول الأسباب الكامنة وراء هذا الزخم، وما إذا كان الوقت الحالي هو الأمثل للمستثمرين لزيادة استثماراتهم في هذه الأصول القيمة.
أرقام قياسية
تظهر المتابعة الدقيقة للأسواق أن الفضة قد اقتفت أثر الذهب في الارتفاع خلال الأسابيع الأخيرة، محققةً قفزات كبيرة أوصلتها إلى أعلى مستوياتها منذ عام 2012. ولم يكن هذا الأداء وليد الصدفة. كما سجل البلاتين أعلى مستوياته منذ عام 2022. هذا الصعود المزدوج يعكس تحولًا جوهريًا في ديناميكيات السوق، حيث بدأت هذه المعادن، التي كانت تعتبر الأقل قيمة مقارنة بالذهب، في اكتساب مكانة مستقلة مدعومة بعوامل متعددة.
دوافع الاستثمار
يشير تحليل معمق إلى أن هذا الصعود المزدوج يعود إلى مجموعة من العوامل الاقتصادية والفنية وسلوكيات المستثمرين. فمن ناحية، هناك إقبال متزايد على الملاذات الآمنة، وهو أمر طبيعي في ظل حالة عدم اليقين الاقتصادي والجيوسياسي التي يشهدها العالم. يبحث المستثمرون دائمًا عن أصول تحافظ على قيمتها، أو تزداد، في أوقات الاضطرابات.
تبرز هنا التدفقات القوية نحو صناديق الاستثمار المتداولة المدعومة بالفضة (ETFs)، حيث سجلت حيازات هذه الصناديق نموًا بنحو 8% منذ شباط/فبراير الماضي. ويعكس هذا النمو اهتمامًا متزايدًا من المؤسسات والمستثمرين الأفراد الذين يعتمدون على الزخم الفني. كما أن الطلب القوي على الفضة المادية في أسواق كالهند يضيف بعدًا آخر لهذا الدعم.
لا تكتمل الصورة دون النظر إلى الجانب الصناعي، فالأهمية الصناعية للفضة تكمن في كونها عنصرًا أساسيًا في قطاعات التكنولوجيا النظيفة، وخاصة صناعة الألواح الشمسية المتنامية عالميًا، مما يدعم الطلب المستقبلي عليها. أما البلاتين، فيحظى بدعم قوي من تعافي الطلب الصيني، وارتفاع معدلات الإيجار التي تشير إلى نقص في المعروض، بالإضافة إلى استخدامه الحيوي في المحولات الحفازة للمركبات والمعدات المخبرية. ومن المتوقع أن يشهد سوق الفضة والبلاتين عجزًا بين العرض والطلب هذا العام، وهو عامل أساسي يدعم الأسعار بقوة.
بصمة الذهب
لا يمكن تجاهل تأثير السياسات النقدية على أسعار المعادن الثمينة. فالتوقعات بتثبيت أو خفض أسعار الفائدة في المستقبل القريب تدعم أسعار الذهب والفضة والبلاتين. هذه الأصول، التي لا تدر عوائد مباشرة، تصبح أكثر جاذبية عندما تقل عوائد الأصول الأخرى التي تتأثر بالفائدة.
على صعيد المؤسسات المالية الكبرى، فإن البيانات الصادرة هذا الأسبوع عن استمرار البنوك المركزية، وعلى رأسها البنك المركزي الصيني، في تعزيز احتياطياتها من الذهب للشهر السابع على التوالي (بإضافة 60 ألف أوقية في أيار/مايو)، تبعث إشارة قوية لسوق المعادن الثمينة ككل. هذا التوجه نحو تنويع الاحتياطيات بعيدًا عن الدولار الأميركي يعزز الثقة في هذه المعادن كملاذ آمن في ظل تقلبات الأسواق المالية العالمية، ويدعم أسعار الفضة والبلاتين بشكل غير مباشر عبر خلق بيئة إيجابية للمعادن النفيسة بأكملها.
هل الاستثمار الآن خيار حكيم؟
في ما يخص جاذبية الاستثمار في الفضة والبلاتين حاليًا، فإن التوقعات تميل إلى الإيجابية المشروطة. ففي حين أن الزخم الحالي قد يحمل المزيد من المكاسب، خصوصًا مع توقعات العجز في المعروض الصناعي ودعم الطلب الاستثماري، إلا أن أي استثمار يتطلب دراسة دقيقة للمخاطر.
البقاء فوق مستوى 35 دولارًا للفضة يعتبر نقطة تحول حاسمة قد تعيد إشعال اهتمام المستثمرين الأفراد بشكل أكبر. كما أن تجدد الطلب على صناديق البلاتين المتداولة في البورصات يمكن أن يغذي الاهتمام المضاربي، نظرًا لارتفاع أسعار الإيجار الذي يشير إلى شح في السوق المادية.
إن الاستثمار في هذه المعادن يتطلب فهمًا عميقًا للعوامل الاقتصادية الكلية، والتوقعات الصناعية الدقيقة، وتوجهات سياسات البنوك المركزية. فالمعادن الثمينة، ورغم كونها ملاذًا آمنًا، تظل أصولًا تتسم بالتقلبات.
بين الفرصة والتحدي
في خضم التطورات الاقتصادية العالمية، تعيد الفضة والبلاتين تأكيد مكانتهما كأصول ذات قيمة حقيقية. فصعودهما لا يعكس فقط تزايد شهية المستثمرين للملاذات الآمنة، بل أيضًا دورهما المتنامي في الصناعات الحديثة التي تشكل مستقبل الاقتصاد العالمي. وبينما تحمل التوقعات إشارات إيجابية، فإن سوق المعادن الثمينة، كغيره من الأسواق، يظل عرضة للتقلبات.
يبقى السؤال الأهم هو كيف سيتفاعل هذا الصعود مع التحولات الاقتصادية الكبرى، وما إذا كان هذا التوهج سيستمر ليخلق فرصًا استثمارية طويلة الأجل، أم أنه سيشهد تصحيحات حتمية مع تغير الرياح الاقتصادية العالمية. في النهاية، يبقى القرار للمستثمر، ولكن المعطيات الحالية تشير إلى أن المعادن الثمينة تستحق المتابعة الدقيقة.
أخبار سوريا الوطن١-النهار