شن الجيش الإسرائيلي، فجر الإثنين، غارات جوية واسعة استهدفت نحو 20 مقرًا لميليشيا “فيلق القدس” والقوات الإيرانية داخل العاصمة الإيرانية طهران، في تصعيد عسكري غير مسبوق يعكس تصاعد حدة التوتر بين الطرفين، خاصة بعد الأنباء عن تصفية قائد الفيلق إسماعيل قاآني، خلال الضربات.
دور محوري في دعم نظام الأسد السابق
لعب “فيلق القدس”، الذراع الخارجي للحرس الثوري الإيراني، دورًا محوريًا في دعم نظام الأسد السابق، منذ اندلاع الثورة السورية عام 2011، حيث تحولت سوريا إلى أحد أهم ساحات النفوذ الاستراتيجي لإيران. ومن خلال إرسال مستشارين عسكريين وقيادات ميدانية بارزة مثل قاسم سليماني، وتنظيم مليشيات طائفية محلية وتدريبها، وإدارة عمليات القمع والتمدد العسكري، برز الفيلق كأداة رئيسية في إنقاذ النظام السابق من الانهيار، وتنفيذ أجندة إيرانية تتجاوز الحدود السورية لتشمل تعزيز المحور الشيعي في المنطقة. ومع تصاعد الانتهاكات الإنسانية وجرائم الحرب التي رافقت تدخل الفيلق، بقي وجوده هدفًا أوليًّا لضربات إسرائيل المتكررة، قبل أن يشهد زوالًا نسبيًّا مع سقوط نظام الأسد السابق في ديسمبر 2024.
أداة النفوذ الإيراني في سوريا منذ 2011
تأسست ميليشيا “فيلق القدس” عام 1990 بهدف تنظيم وتوسيع النفوذ الخارجي لميليشيا “الحرس الثوري” الإيراني، وكان ولا يزال الذراع العسكرية والاستراتيجية الرئيسية لإيران في بسط نفوذها الإقليمي، خصوصاً في سوريا. وبقيادة سليماني، الذي تولى الفيلق منذ عام 1998، تحولت سوريا إلى أحد أهم ساحات النشاط الخارجي للفيلق، حيث لم يكن الدعم الإيراني مجرد “استشاري”، كما تروّج طهران، بل كان يشمل إرسال قوات مقاتلة ومعدات عسكرية ثقيلة، وتنظيم مليشيات محلية مثل “لواء فاطميون” (من الشيعة الأفغان) و”لواء زينبيون” (من الشيعة الباكستانيين)، إضافة إلى التنسيق مع حزب الله اللبناني والحشد الشعبي العراقي. وكان للفيلق دور مباشر في العمليات العسكرية التي أدت إلى قمع الحراك الشعبي، وارتكاب انتهاكات جسيمة بحق المدنيين، بما في ذلك القصف العشوائي، والقتل الجماعي، والتشريد الطائفي، وتدمير البنية التحتية، واستخدام التعذيب كوسيلة سياسية.
الدور الإيراني في إعادة تشكيل الخارطة السورية
لم يقتصر دور “فيلق القدس” على الجانب العسكري فقط، بل شارك أيضًا في عمليات تغيير ديمغرافي في المناطق التي كانت تحت السيطرة الحكومية، خصوصًا في الغوطة الشرقية وحلب وحمص ودرعا، حيث تم تهجير آلاف العائلات ونقلها إلى مناطق شمال سوريا، فيما تم استبدالهم بمجموعات شيعية من أفغانستان والعراق وإيران، ضمن مشروع توطين طائفي أوسع يخدم التمدد الإيراني في المنطقة. كما عمل الفيلق على بناء شبكة من مستودعات الأسلحة والمواقع اللوجستية عبر المحافظات السورية، وصولًا إلى الحدود مع لبنان، لتسهيل نقل السلاح إلى حزب الله، وفي الوقت نفسه تعزيز القدرة العسكرية للميليشيات الموالية لإيران.
التصعيد الإسرائيلي: من جنوب سوريا إلى قلب طهران
ومنذ بدء التدخل الإيراني في سوريا، كانت إسرائيل من أبرز الدول التي تصدت لتمدد النفوذ الإيراني في المنطقة، وشنّت مئات الضربات الجوية ضد مواقع لفيلق القدس وميليشياته في الجنوب السوري، وخاصة حول دمشق ودرعا، وكذلك في محيط القواعد العسكرية الإيرانية. لكن ما حدث مؤخرًا يُعد تطورًا نوعيًا في استراتيجية إسرائيل، حيث لم تعد تقتصِر ضرباتها على مواقع الفيلق في سوريا، بل انتقلت إلى استهداف قياداته ومرافقه الأساسية داخل إيران ذاتها، وهو ما يُظهر أن إسرائيل لم تعد تكتفي بالدفاع الاستباقي، بل تسعى إلى تدمير البنية التحتية القيادية للفيلق قبل أن تستعيد قوتها في مرحلة ما بعد سقوط نظام الأسد السابق. وأكد الباحث في الشأن العسكري، رشيد حوراني في حديثه لمنصة ، أن “الهدف الرئيسي لإسرائيل لم يعد فقط تدمير المنشآت العسكرية التابعة لنظام الأسد، بل أيضًا القضاء على جميع الميليشيات التي كانت مرتبطة بالنظام وبإيران، والتي قد تشكل خطراً مستقبلياً على الأمن الإسرائيلي”. وأضاف حوراني: “من بين هذه الميليشيات، يُعد ‘لواء القدس الفلسطيني’ من أكثر الكيانات المدعومة من إيران خطورة، بسبب امتلاكه خبرات قتالية عالية، ووجود عناصر تتبنى الفكر الإيراني، وقادرة على شن هجمات انتحارية أو صاروخية داخل إسرائيل”.انتشار إيراني متراجع وضربات إسرائيلية مستمرة وكان من الملاحظ زمن النظام السابق، الوجود العسكري للفيلق خصوصًا في شمال البلاد، حيث كانت الميليشيات الإيرانية تعمل حينها على إعادة تموضعها بالقرب من المناطق الشيعية مثل نبل والزهراء، وأيضًا في محيط المناطق المتنازع عليها مثل إدلب والحسكة والرقة. ووفق دراسة لمركز مكافحة الإرهاب نشرت في عام 2023، فإن “الفيلق يعمل على نقل مخازن السلاح إلى مناطق آمنة مثل جبرين شمال شرق حماة، ويستخدم قواعد جوية مثل الجراح وكويرس كمراكز لإطلاق الطائرات المُسيّرة، كما ركز على نقاط التموضع بالقرب من الحدود مع الأردن ومرتفعات الجولان، التي كان يتم تحضيرها كمسرح لمواجهة مستقبلية مع إسرائيل”.
صراع غير مباشر يتحول إلى مواجهة مباشرة
وقال الباحث المساعد في مركز حرمون للدراسات، إبراهيم خولاني في حديث لمنصة، “إن استهداف إسرائيل لمقرات فيلق القدس في طهران يمثل ذروة صراع طويل بدأت بوادره منذ عام 2011، عندما بدأ الفيلق بإعادة ترتيب الحلفاء في سورية، ودعم النظام بكل الوسائل”. وأضاف: “إن الانتقال من استهداف المواقع الخارجية إلى قلب القيادة الإيرانية يشير إلى تغير في قواعد الاشتباك، وربما بداية مرحلة جديدة من المواجهة المباشرة بين إسرائيل وإيران، وليس فقط عبر الوكلاء كما كان الحال سابقًا”.
نهاية حقبة “فيلق القدس” في سوريا
من الواضح أن “فيلق القدس” لا يزال يُنظر إليه كتهديد استراتيجي مباشر ضمن بنك الأهداف الإسرائيلية، بالنظر إلى دوره المركزي في الربط بين الميليشيات الموالية لطهران في عدة دول، وقدرته على نقل الخبرات والأسلحة وتوجيه العمليات عبر شبكة إقليمية معقدة. وفي ضوء هذه المعطيات، فإن ما حدث ليس مجرد رد تكتيكي بل هو جزء من تحول في طبيعة المواجهة، حيث لم تعد تُخاض بالوكالة فقط، بل باتت تضرب في عمق مراكز القرار والتخطيط داخل إيران، ما يحمل في طياته رسائل ردع إقليمي تتجاوز الملف السوري، ولكنها تبقى متجذرة في تداعياته وتوازناته.